التتبع الرقمي للمخالطين يحد من انتشار «كوفيد-19»
يُقصَد بالتتبع الرقمي للمخالطين في أنه عندما يُصاب شخص بمرض مُعْد، مثل «كوفيد-19»، يمكن لتطبيق على هاتفه الذكي أن يرسل تنويهًا إلى الهواتف الذكية الأخرى الموجودة على مقربة من هاتف المصاب – حتى مسافة مترين مثلًا – ولمدة لا تقل عن فترة زمنية محددة، ولتكن 15 دقيقة مثلًا. غير أن الأشخاص الذين يعيشون في بلدان ديمقراطية قد لا يتقبلون مثل هذا التطبيق بسهولة، نظرًا إلى التخوُّفات المتعلقة بخصوصية بياناتهم. بين أيدينا دراسة، أعدَّها وايمانت وزملاؤه، تفيد بتمكُّن الباحثين من تنفيذ أحد تطبيقات تتبُّع المخالطين تنفيذًا فعّالًا على نطاق واسع في مجتمع ديمقراطي، وتحديدًا في إنجلترا وويلز بالمملكة المتحدة.
هذا التطبيق – الذي أطلقته هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية (NHS) لخدمة مرضى «كوفيد-19» – يعتمد على نظام «جوجل أبل لإخطارات التعرض»، الذي يُشار إليه بالاختصار GAEN. يَستخدِم هذا النظام إشارات راديوية منخفضة الطاقة، تنتقل من خلال خاصية «البلوتوث»، لإرسال شفرات تعريف مولَّدة عشوائيًّا من هاتف إلى آخَر قريب منه (فيما يُعد نوعًا من المصافحة)، وتتغير هذه الشفرات كل عشر دقائق إلى عشرين دقيقة. وتُخزَّن شفرات الهواتف التي حدث بينها تواصل فيزيائي عن قرب كل أربعة عشر يومًا في التطبيق على هاتف المستخدم. وعندما يصاب المستخدم بالمرض، وتكون نتيجة اختبار «كوفيد-19» الخاص به إيجابية، يمكن إرسال شفرته – بعد أخذ موافقته، ودون ذكر اسمه – إلى خادم مركزي. ويمكن لمستخدمي التطبيق الآخرين التواصل لحظة بلحظة مع الخادم المركزي، لمعرفة ما إذا كانوا قد خالطوا الشخص المصاب، أم لا. ومن ثم، يستطيع التطبيق أن يساعد على تنبيه الأشخاص الذين يُحتمل أنهم قد تعرضوا للإصابة بمرض «كوفيد-19»، بحيث يسارعون إلى إجراء الاختبار، أو عزل أنفسهم طواعية، وتنبيه مخالطيهم إلى اتباع الشيء نفسه.
على أنَّ تطبيق تَتَبُّع المخالطين لن يُحدث في المجتمع أثرًا ذا بال، ما لم يقُم قطاع عريض من الناس بتثبيته واستخدامه. وتشير تجربة التطبيق إلى أن أعداد المشاركين في استخدامه كافية لجعله مفيدًا. ويُقَدَّر من يُسمح لهم بتحميل التطبيق (أي أولئك الذين تجاوزوا سن السادسة عشرة من العمر، ويقيمون في إنجلترا أو ويلز، ولديهم هاتف ذكي مناسب) بنحو 33.9 مليون شخص. وخلال الفترة منذ بداية إطلاقه في الرابع والعشرين من سبتمبر 2020 إلى نهاية العام، جرى تنزيل التطبيق بواسطة 21 مليون جهاز. وفي الفترة الممتدة بين الأول من نوفمبر والحادي عشر من ديسمبر 2020، استُخدم التطبيق بانتظام بواسطة 16.5 مليون شخص تقريبًا، وهو عدد يمثل نحو 49% من الجمهور المسموح له بالاستخدام، أو 28% من إجمالي مجموع السكان في إنجلترا وويلز. وإضافة إلى ذلك، وافق 72% من ممثلي الحالات المرجعية بين مستخدمي التطبيق (الأفراد الذين أفادت اختباراتهم بتعرُّضهم للإصابة فعلًا بمرض «كوفيد-19») على إرسال إخطارات التعرض المعتمِدة على التطبيق إلى مخالطيهم، بعد التحقق من أن نتيجة اختباراتهم كانت إيجابية.
وبالنظر إلى أن وايمانت وفريقه كانوا يعرفون أن إجراء تجربة عشوائية يمكن من خلالها قياس تأثير تطبيق تتبُّع المخالطين يُحتمل ألا يكون قابلًا للتنفيذ، فقد استخدموا طريقتين لتقدير تأثير التطبيق على انتشار «كوفيد-19»، في الفترة الممتدة من أكتوبر إلى ديسمبر 2020. في الطريقة الأولى، اعتمد الباحثون على عدد الإخطارات التي جرى رصدها، ومعدل الهجمات الفيروسية الثانوية – أي نسبة المخالطين المسجلين، الذين تأكَّدَت إصابتهم فيما بعد – في بناء نموذج يمكن من خلاله حساب عدد الأشخاص الذين تجنَّبوا الإصابة بفضل استخدامهم للتطبيق. ووفقًا للطريقة الثانية، عقد الباحثون مقارنات إحصائية للعدد التراكمي للحالات بين المناطق التي تتشابه من حيث معدلات الإصابة، لكنها تختلف من حيث مستويات استخدام التطبيق، بعد أن وضعوا في الاعتبار العوامل المعروف عنها ارتباطها بمعدلات الإصابة، وأيضا ارتباطها بمستوى استخدام التطبيق (كأنْ تكون المنطقة ريفية أكثر من غيرها، ومستويات الفقر فيها أقل، واقتصادها المحلي أكثر قوة).
توصل الباحثون إلى أنه مع كل زيادة قدرها 1% في عدد مستخدمي التطبيق، يمكن أن ينخفض عدد حالات الإصابة بنسبة 0.8% (وفقًا للنموذج)، أو بنسبة 2.3% (بناءً على المقارنات الإحصائية، كما هو موضَّح في الشكل 1). ووجد الباحثون أيضًا أن احتمال أن يصبح اختبار أي شخص ممن يتلقون الإخطارات إيجابيًّا، خلال الأسبوعين التاليين لتلقي الإخطارات، يبلغ 6%. وإجمالًا، يمكن القول إن كل شخص مصاب بالمرض، ممن وافقوا على إرسال الإخطارات من هواتفهم إلى مخالطيهم من خلال التطبيق، قد أسهَم في تجنيب دوائر المحيطين به حالة واحدة تقريبًا من حالات الإصابة بالمرض.
لقد كان التأثير المتوقع للتطبيق في تقليص انتشار المرض ملموسًا، بالنظر إلى أن اختبار «كوفيد-19» ليس إجباريًّا، كما أن العزل الذاتي أو الحجر الصحي لم يطبَّق بحزم على الحالات المرجعية، أو على أولئك الذين جرى إخطارهم. في سلسلة من الإجراءات المسحية في المملكة المتحدة، أفاد 20.2% فقط ممن سُجِّلت إصابتهم بأعراض «كوفيد-19»، خلال فترة سبعة أيام، بأنهم اتبعوا إجراءات العزل المنزلي اتباعًا صارمًا، بينما أفاد نحو 70% بأنهم كانوا يعتزمون الالتزام بالقواعد إذا تطورت الأعراض.
ومن بين الانتقادات الشائعة التي وُجِّهَت إلى التطبيق أنه يمكن أن يُحدث قدرًا لا بأس به من «الإزعاج»، عن طريق التواصل مع عدد كبير من الأفراد الذين تنخفض احتمالات إصابتهم بالمرض، مقارنة بعدد المخالطين الذين يجري تحديدهم بواسطة متتبعين من البشر (يُنفذون عملية التتبُّع «يدويًّا»)، والذين يُحتمل أن تكون المقابلات الشخصية التفصيلية التي يجرونها أنجح في الوصول إلى المخالطين الحقيقيين القريبين من المريض. ردًا على هذا الانتقاد، أوضح مؤلفو الدراسة أن معدل الهجمات الثانوية، الذي يبلغ 6%، والذي جرى التوصل إليه باستخدام التطبيق، يشبه المعدل الذي أمكن التوصل إليه بواسطة تتبُّع المخالطين بالطرق اليدوية غير الرقمية، ويبلغ 6.9%. كما وجد الفريق أن متوسط عدد مخالطي المريض الواحد الذين أمكن التوصل إليهم بلغ 4.4 في حالة التتبع الرقمي، بينما كان المتوسط 1.8 في حالة التتبع اليدوي. ويُعتقَد أيضًا أن التطبيق أدى إلى الوصول إلى عدد أكبر من المخالطين من خارج المحيط المنزلي للشخص، مقارنةً بما حققه التتبع اليدوي. وهي نتيجة تؤيد الفكرة القائلة بأن التطبيق لا يقلُّ دقةً عن التتبع اليدوي، ويمكن أن يكون مكملًا له.
وكما ذكرنا سابقًا، يثير التتبع الرقمي للمخالطين مخاوف بشأن الخصوصية؛ فكثير من المواطنين لا يرغبون ببساطة في أن تكون شؤونهم الصحية خاضعة للمراقبة، لا سيما عندما يكون تقييد حريتهم في السفر تبعًا لذلك أمرًا محتمَلًا. غير أن التقنية المستخدَمة في نظام «جوجل أبل لإخطارات التعرض» تحجب أسماء أصحاب البيانات، وتُبْقِي عليها متاحة للمستخدِم فقط في هاتفه. وفضلًا عن ذلك، لا بد من الحصول على موافقة الشخص المصاب على إرسال شفراته إلى الخادم المركزي، للسماح بالمضاهاة مع المخالطين. أضف إلى ذلك أنه لا يمكن استخدام شفرات التعريف بواسطة العاملين في الخادم المركزي للكشف عن هوية الشخص المصاب، أو هويّات مخالطيه.
تكمُن الميزة الأهم للتتبع الرقمي للمخالطين في سرعته، وإمكانية التوسع في استخدامه. هذا الأمر بالتحديد يكتسب أهمية خاصة في حالة مرض «كوفيد-19»، إذ يمكن للفرد نقل فيروس «سارس-كوف2» SARS-CoV-2 لمدة أيام قبل أن تظهر عليه أعراض، بل يمكن ببساطة أن يستمر في نقل الفيروس، دون أن تظهر أية أعراض ربما تستطيع تطبيقات تتبُّع المخالطين أن تعمل بسرعة أكبر، وبموثوقية أكبر، مقارنة بالطرق اليدوية التي تشمل إجراء مقابلات شخصية مع المصابين، الذين لا يتذكر كثير منهم مخالطيهم في الفترة الأخيرة، أو لا يبقون على اتصال بهم. ومن المزايا الأخرى لنظام التتبع الرقمي للمخالطين، قدرته على التواصل مع الغرباء، فبدون التطبيق، لا يمكن ببساطة تتبُّع الغرباء الذين يجلسون بجوار الشخص المصاب في حافلة مثلًا.
ويتمتع هذا التطبيق، الذي أطلقته هيئة الخدمات الطبية البريطانية، بخصائص إضافية الآن. من هذه الخصائص: القدرة على «دخول» مناطق معينة عن طريق قراءة «رمز الاستجابة السريعة» QR code (الذي يعمل بطريقة «الرمز الشريطي» barcode)، كي يجري الإخطار لاحقًا بما إذا كانت هناك حالات إيجابية بالمنطقة. وخاصية أخرى، هي خاصية «متتبع الأعراض»، الذي يرتبط بنظامٍ لحجز مواعيد الاختبار، إضافةً إلى القدرة على طلب الاختبار وتَلَقِّي النتائج عبر التطبيق.
ولتحقيق أقصى فعالية للتطبيق، يَعتمِد التتبُّع الرقمي للمخالطين على قدرة النظام الصحي على متابعة المخالطين المحتمَلين، وعرض إخضاعهم للاختبار، ومَنْحهم الرعاية الإكلينيكية والدعم الاجتماعي والمادي أثناء العزل، حسب الحاجة. ويمكن لتدفق البيانات، أيضًا، أن يؤثر بقوة على فعالية التتبع الرقمي للمخالطين. فعلى سبيل المثال، هل يجري إرسال النتائج الإيجابية للاختبارات ذاتيًّا من خلال التطبيق، أم الحصول عليها مباشرة، أم يجري نشرها أوتوماتيكيًّا من قِبَل المختبرات؟ هل سيتم إعلام مقدمي الخدمة الصحية، وموظفي الصحة العامة بشأن النتائج الإيجابية للاختبارات بسرعة، لكي يتمكنوا من التصرف السريع في تتبع المخالطين، وتقديم النصح للمعزولين، وإجراء الفحص لمعرفة المخالطين القريبين، وتقديم الدعم والرعاية للمصابين؟ كل هذه العناصر يمكن أن تضيف إلى فعالية الجهود المبذولة في كل من التتبع الرقمي، والتتبع اليدوي للمخالطين.
ورغم أن مسؤولي الصحة في إنجلترا وويلز لا يتسنَّى لهم الاطلاع على هويّات المصابين من خلال التطبيق، إلا أنهم يستطيعون استخدام البيانات المستقاة من التطبيق، لتقدير معدلات الإصابة في الأحياء، حسب الأكواد البريدية (النصف الأول من الكود البريدي، الذي يشير إلى المنطقة والحي) التي يدخلها المستخدمون أثناء عملية التسجيل. وفي ظل هذه القيود، والتركيز على الخصوصية والاستقلال الذاتي (أي مع قدرة المستخدمين على الاختيار بين إرسال أو عدم إرسال إخطارات تفيد إيجابية اختباراتهم)، فمن اللافت أن تطبيق تتبُّع المخالطين لا يزال يعطي نتائج مبهرة في الحد من انتشار «كوفيد-19». إن نجاح هذا التطبيق، الذي تناوله الباحثون بالدراسة، يمنح الأمل في نجاح تطبيقات رقمية أخرى لتتبع المخالطين في أماكن أخرى، وهو ما يمثل إمكانات جديدة لاحتواء انتشار هذا الفيروس سريع الانتشار.
المصدر: https://www.nature.com/articles/d41586-021-01354-8